إصلاح أم إقصاء: جدل قانون الأحزاب الجديد والديمقراطية في موريتانيا

أحد, 27/07/2025 - 22:43

في الفضاء الفلسفي الذي تأسست فيه فكرة الديمقراطية،لم تكن الكثرة العددية في يوم من الأيام هي المعيار الحاسم لشرعية الفكرة أو لمصداقية الفعل السياسي، بل إن جوهر الديمقراطية، كما نشأ في تصورات الفلاسفة والمفكرين الكبار، ظل مرهونًا بقدرة الفرد الحرّ على بلورة الفكرة، وبقوة الفكرة – مهما بدَتْ هامشية في مهدها – على تغيير البنية السياسية والاجتماعية متى وجدت بيئة عادلة تمنحها حق الحياة، والتاريخ يمدنا بالأمثلة الحية؛ فلقد بدأت غريتاتونبرغ (الناشطة البيئية السويدية المعاصرة) فكرتها منفردة،منتصف العقد الماضي، بينما غيرت فكرتُها لاحقا وعيَالعالم، وكانت تقول: "لقد حاولتُ جذب الناس ليكونوا معي،ولكن لا أحد كان مُهتمّا، فاضطررت للقيام بالأمر بمفردي" ،وقبلها كانت أفكار كلّ من مارتن لوثر كينغ ومانديلا،وفاتسلاف هافل .. قد بدأت أفكارَ أفرادٍ ثم انتهت في شكل حركات تغيير جماهيرية كاسحة .
لهذا السبب، ظلّ التنبيه حاضرًا في الفكر السياسي إلى مخاطر الانزلاق نحو "عبادة الكمّ"، لما ينطوي عليه هذا الانزلاق من تحوير لطبيعة الحرية، حيث تتحول من قيمة إنسانية أصيلة إلى رقم مجرد، ويُختزل الحقّ في المشاركة إلى معادلات حسابية جامدة.
في ضوء هذه الرؤية، يبدو قانون الأحزاب الجديد في موريتانيا مثيرًا لعدد من التساؤلات البنيوية حول المسار الذي تتخذه الديمقراطية التعددية في بلادنا؛ فالقانون، كما صِيغَ، لا يكتفي بوضع معايير تنظيمية لترخيص الأحزاب،بل يشترط – ضمن أمور أخرى – حصول الحزب السياسي قيد التأسيس على ما لا يقل عن خمسة آلاف تزكية، موزعة وفق معايير جغرافية وفئوية دقيقة، وهو ما يفرض حاجزًا ماديًا ومعنويًا أمام المبادرات السياسية الناشئة.
 
 
بين الفكرة والعدد: أزمة معيار الشرعية السياسية
 
لطالما قامت الديمقراطية، من حيث هي فلسفةُ حُكمِ وتصور للحياة العامة، على مبدأ تكافؤ الفرص في التعبير والمشاركة، وليس على معيار القدرة العددية أو التنظيمية فحسب؛ ومن ذلك الشرعية السياسية للأحزاب  فلا يجب أن تُربط بعدد المنخرطين أو حجم الحشود، بل بمدى وجاهة الطرح وفاعلية المشروع السياسي المقدم. وإذا كان القانون الجديد يرفع عدد المؤسسين من 20 إلى 5000 مزكٍّ،فإن هذا الانتقال لا يمكن تفسيره على أنه مجرد إجراء تقنيفحسب، بل هو في حقيقة أمره تعبير عن تحولٍ جوهري في فلسفة التشريع: من الانفتاح إلى الانغلاق، ومن التعدد إلى الحصر، ومن تكافؤ الفرص إلى إعادة إنتاج المشهد السياسي على مقاس القوى التقليدية المهيمنة على المشهد الساسي.
ومن هذا المنظور، يحق لنا أن نتساءل: هل هذا القانون يسعى إلى إصلاح الحياة السياسية  وتعزيز فاعليتها؟ أم أنه يسعى، تحت ستار التنظيم، إلى تقييد دينامياتهاالطبيعية وإقصاء الفاعلين الجدد، لا لشيء سوى لأنهم لا يملكون رصيدًا عدديًا أو نفوذا تقليديًا؟
 
تنظيم .. أم تقنين للاحتكار السياسي؟
 
أَيُّ تشريعٍ يتعلق بالحياة السياسية ينبغي أن يسعى في جوهره إلى تهيئة الشروط العامة لممارسة التعددية، وليس إلى تضييقها أو مصادرتها، غير أن الصيغة الحالية لقانون الأحزاب تمنح وزارة الداخلية صلاحياتٍ واسعةً في تجميد نشاط الأحزاب أو حلّها، دون الحاجة إلى حكم قضائي أو رقابة مستقلة، وهو ما يهدد مبدأ الفصل بين السلطات،ويُحوّل الحياةَ السياسيةَ إلى ميدان خاضع لتقديرات إدارية قد لا تكون بريئة من بعض الاعتبارات السياسية أو الأجندات الخفية.
والأخطر من ذلك أن القانون يفرض على الأحزاب الجديدة شروطًا قد تكون تعجيزية في الواقع، كضرورة فتح مقرات دائمة في نصف ولايات الوطن خلال ستة أشهر فقط من التأسيس، فضلًا عن التزامات صارمة تتعلق بالتمثيل الجندري والجغرافي. ومع أن هذه الشروط قد تبدو – في ظاهرها – حريصة على تمثيل متوازن وشامل، إلا أنها في الواقع تضع العراقيل أمام القوى السياسية الصاعدة أو المستقلة، التي غالبًا ما تفتقر إلى الدعم المالي والمؤسسي،في حين يسهل تجاوزها بالنسبة إلى الأحزاب المرتبطة بشبكات النفوذ التقليدية أو الجهات النافذة.
 
 
أدوات بديلة أكثر عدالة وفاعلية
 
لقد سبق للدولة الموريتانية أن واجهت ظاهرة "الأحزاب الورقية" من خلال تشريعات أكثر توازنًا، من أبرزها شرط حصول الحزب على 1% من الأصوات في اقتراعين وطنيينمتتاليين، وقد أفضى هذا الشرط إلى حل عدد معتبر من الأحزاب غير النشطة، دون الحاجة إلى فرض قيود جديدة أوالمساس بجوهر التعددية السياسية، ومن ثمّ فإن تشديد شروط الترخيص اليوم لا يمثّلُ استجابة لحاجة موضوعية،بقدر ما يُعبّر عن رغبة في إعادة هندسة الفضاء السياسي بطريقة تحافظ على مراكز النفوذ وتحدّ من احتمالات المنافسة والتجدد.
والسؤال الجوهري هنا: أليس من الأجدى أن تعمل السلطات على دعم الأحزاب الجادة من خلال برامج مواكبة وتمويل شفاف، بدلًا من فرض شروط شكلية قد تخنق روح المبادرة؟ 
أليس من الأجدر أن يتم تشجيع الشباب والنساء والمثقفين على خوض غمار السياسة، بدلًا من إقصائهم تحت طائلة شروط لا تتوفر إلا للنخب المترسخة تقليديًا في السلطة؟
 
 
إلى أين يتّجه المشهد الحزبي في موريتانيا؟
 
ما يبعث على القلق في هذا القانون ليس فقط ما يتضمنه من بنود إجرائية صارمة، بل ما يعكسه من رؤية سياسية ضيقة، ترى في التعددية خطرًا محتملًا، لا فرصة لبناء حياة ديمقراطية ناضجة، فبدلًا من أن تُبنى الشرعية السياسية على الأفكار والبرامج، يتم اختزالها في عدد التزكيات،وحجم الحشود، والقدرة على التكيّف مع اشتراطات بيروقراطية قد لا تخدم إلا قوى بعينها.
وهذا التوجّه، إن استمر، ستكون له تبعات سيئة على الحياة السياسية في المديين المتوسط والبعيد، لأنه يُقصي المبادرات المستقلة، ويخنق الحراك السياسي الذي ينبع من القاعدة المجتمعية، ويحوّل المشهد الحزبي إلى ساحة مغلقة على الفاعلين التقليديين وحدهم.
 
 
الديمقراطية ليست حسابًا بالأصابع
 
وحين تتحوّل الديمقراطية إلى مجرد رقم، وتُختزل في عدد التوقيعات والتزكيات أو في حجم الحشود، فإننا نبتعد عن روحها وجوهرها، فالقوة السياسية لا تُقاس دائمًا بكثرة الأنصار، وإنما بعمق الفكرة، ونزاهة الوسيلة، وصدق المشروع.
إن الديمقراطية الحقيقية لا تضع على أبوابها موازين الكمّ،ولا تجعل من العدد شرطًا للعبور إلى الفعل السياسي، بل تفتح مجالها لكل من يحمل رؤية ويملك إرادة، ولذلك فإن الإصلاح السياسي الحقيقي لا يكون بتعقيد شروط الدخول إلى الحلبة، بل بتهيئة فضاء عام يُتيح للفكرة أن تُولد،وللمبادرة أن تُختبر، وللمواطن أن يختار، في مناخ يحترم التعدد ويصون الحرية.
                                              
 يحيى ولد البيضاوي
gmail.com @ elbeidawi