
الزاوية الأولى: ذائقة مجتمعية مشوهة، صارت لا تنبهر إلا بالسخافات، ولا ترتاح إلا للميوعة، ولا تتفاعل إلا مع ما لا يُسمن ولا يُغني من أفكار وكتابات. وللتأكد من ذلك لا تحتاج إلى بحث طويل، يكفي أن تنشر تدوينتين متزامنتين: واحدة تافهة لا معنى لها، وأخرى جادة تحمل فكرة أو تناقش قضية، وستكتشف بنفسك أيهما ستجد تفاعلا قويا، وأيهما ستمر دون إعجاب أو تعليق.
الزاوية الثانية: إدارات عمومية ومؤسسات خصوصية لم تعد ترى في العقول ولا في الكفاءات وسيلة للتسويق أو للتأثير، بل صار الطريق الأقصر عندها لتسويق أي شيء هو اللجوء إلى التافهين. المفارقة الأشد إيلاما أن الجاد قد ينتظر طويلا ليُقابل مسؤولا أو يطرح فكرة، بينما التافه يجد الأبواب مشرعة أمامه، والفرص تتزاحم في وجهه.
الزاوية الثالثة: نخب وواجهات مجتمعية وصلت إلى مواقعها لا بالكفاءة ولا بالجدارة، وإنما بالانتهازية وتبادل المصالح. ولأن "الطيور على أشكالها تقع"، فمن الطبيعي أن يرفع أولئك من شأن التافهين، وأن لا يروا فيما يدون أصحاب الكلمة الجادة والفكر الرصين، وفيما يقولون، غير صوتيات تغرد خارج السرب، يجب إسكاتها بالتجاهل.
وللأسف، فالتفاهة ليست مجرد ظاهرة محلية أو استثناء عابر، بل هي ظاهرة عالمية، وثقافة أصبحت عابرة للحدود.
نحن نعيش بالفعل عصرا يُقصى فيه عقل القلة، لصالح غباء الأكثرية، ويُهمش فيه الفكر الجاد لصالح "الترند" السطحي، وتُكسر فيه هيبة القيم، أمام هالة الوهم.
إنها ليست مجرد تفاهة.. إنها سطوة التفاهة، وسيطرة التافهين.
والمصيبة الأعظم أن كثيرًا منا صار يتعايش معها وكأنها قدر لا يُرد، أو سمة زمن لا يمكن الفكاك منها لمن قُدِّر له أن يعيش ذلك الزمن.
لكن الحقيقة أن مواجهة التفاهة تبدأ منّا نحن: من ذائقتنا، من اختياراتنا، من الكلمة التي نكتبها، ومن الإعجاب الذي نمنحه.
فإن استسلمنا لها عم الخراب، وإن رفعنا الصوت في وجهها، أعادنا ذلك إلى جادة الطريق.
فلنرفع رؤوسنا عاليا، ولنكف عن التصفيق للتافهين، فالأمة التي تبجل تافهيها، لن تنهض أبدًا.