
في يونيو 2019 ستنتخب موريتانيا رئيسا جديدا للجمهورية وتخرج بذلك حسب المتوقع من حقبة وعهد محمد ولد عبد العزيز التي دامت أحد عشر عاما تقريبا. فما هي الحصيلة الاقتصادية والمالية لهذه الفترة وما هي الانجازات على المستوى الاقتصادي؟
إنه السؤال الذي طرحناه على الدكتور محمد ولد محمد الحسن، استاذ اقتصاد وخبير دولي ورئيس المعهد الدولي للبحوث والدراسات الاستراتيجية الذي تفضل مشكورا بإعطاء قراءته بشكل مفصل لما عاشته البلاد خلال سنوات حكم محمد ولد عبد العزيز العشر لأخبار انسياتيف (InitiativesNews).
في الاقتصاد وخلافا للسياسة، فإن حصيلة الفترة الماضية والتي تسمى في المحاسبة "الميزانية الختامية" تشكل في الحقيقة "ميزانية الافتتاح" للفترة التي تلوح في الأفق. إن الأصول الحقيقية لا الوهمية أو الخيالية لخليفة محمد ولد عبد العزيز ستحول بالكامل إلى من يخلفه في السلطة وكذلك الخصوم!
يقال إن الحساب لايندرس والأرقام عصية على الزمن فلا تشيخ أبدا؛ وفي الاقتصاد الأرقام لها بعد قانوني ملزم ومرهق.
فالاستثمارات التي أنجزت بواسطة ديون مفرطة من العملات الصعبة والغالية لاتقارن بتلك الاستثمارات التي تم تمويلها لفائدة معتدلة بفضل ادخار محلي شجعت عليه ودفعت إليه سياسة اقتصادية ومالية عمومية وطنية.
في العادة تخبرنا الحصيلة الاقتصادية لرئيس دولة ما عن الانجازات وأيضا عن الموارد التي رصدت لتحقيقها وعليه وخلال فترة من الزمن معينة وضمن استراتيجية اقتصادية شاملة رسمت بشكل جيد ومدروس وعملت أصلا لخدمة المجموعة والمصلحة العامة مع إظهار القيم الكمية والنوعية لها، فضلا عن ذلك وفي بلادنا ذات الامكانات المحدودة لابد من وضع سلم للأولويات.
إن مستوى وطبيعة الامكانيات والموارد التي ساعدت على تحقيق الانجازات تحسب لصالح حكومة أو رئيس لايمكن اعتبارها حيادية من حيث تقييمها والحكم عليها فهذه الموارد تكون دائما – بشكل أو بآخر – على عاتق المواطن الدافع للضرائب حيث تأخذ من دخله الحالي والمستقبلي.
إن غياب التحسيس حول الإنجازات وخاصة حول الإمكانيات التي ساعدت عليها والموارد التي كلفتها يجعل من الصعب القيام بأي تحليل أو تقييم سواء بالنسبة للخبير أو للمواطن بل إن ذلك يكون محفوفا بالمخاطر وعشوائيا إن لم يكن مستحيلا بكل بساطة. وهكذا ينسى المواطن مصدر الأموال ويعتقد بسذاجة أنها أموال الرئيس الكريم الذي جاء به القدر السعيد.
إن محاسبة علمية معتمدة على طرفين وبعمودين تسجل هذه المعطيات ضرورية للقيام بميزانية نظام لسنة واحدة فكيف بعد مرور 10 سنوات أو أكثر.
وبعد أن تحددت المفاهيم وصار كل شيء واضحا ولم يعد هناك أي غموض في المصطلحات فهل تريدون أن أقدم لكم إحصاء للإنجازات أو جردها؟
ودون انتظار جوابكم أقول إن جرد إنجازات ولد عبد العزيز متوفر لدى زملائكم في الوكالة الموريتانية للأنباء وربما أيضا لدى أرشيف حزب الاتحاد من أجل الجمهورية. ولرؤيته بموضوعية والتخفيف من أضوائه وخلع بعض المبالغات التي تعمي القلوب والأبصار، يمكن عرضه من خلال وجهة نظر خبراء لأحزاب المعارضة مثل الجبهة الوطنية للديمقراطية والوحدة وتكتل القوى الديمقراطية.
وأنا أعلم أنكم عندما تتوجون بالسؤال إلي شخصيا فمعنى ذلك أنكم تريدون حصيلة موضوعية بل أكثر من ذلك تقييما اقتصاديا وماليا لتلك الحصيلة.
إن الأهمية الأساسية لهذه القضية لمن يعرفون الوضعية الموريتانية الحالية هي إعطاء تقييم اقتصادي لما بات يعرف بـ"الإنجازات الاقتصادية لعزيز" وتوضيح الوضع – من خلالكم – للسادة القراء حول هذه الفترة أن "إنجازات ولد عبد العزيز كثيرة وكبيرة على العموم ظاهرة وموزعة على كامل التراب الوطني وتزين البلاد طولا وعرضا".
وكما قلت في السابق في بداية الحديث لم أقم بالتعداد الرقمي لهذه الانجازات بل أكتفي بالحصيلة الاقتصادية والمالية لها في السياق العام وإعطاء القيمة الكمية والنوعية لها والكشف عن التأثيرات المتبادلة مع القطاعات الاقتصادية الموريتانية الأخرى والتعرف على تأثيرها على العملية الاقتصادية بعد إدراكنا نوعية التسيير والتكلفة والمردودية والفوائد والعيوب الخاصة والمتصلة بها.
في المصطلحات الدارجة في العلوم الاقتصادية نسمي هذه الانجازات التي تلوكها ألسنة الرجال والنساء السياسيين وتتداولها الدوائر الدعائية للأحزاب تتسمى في الأوقات العادية استثمارات عمومية فهذه الانجازات ما كان لها أن ترى النور لولا أنها داخلة في إطار الاستثمار العمومي.
ولتقييمها على ضوء مال واقتصاد البلد علينا فحص نقاط القوة والضعف في الاقتصاد الموريتاني والتي تتفاعل بشكل ديناميكي مع الاستثمار العمومي وتتداخل معه وعلينا كذلك النظر في المؤشرات الاقتصادية الإيجابية أو السلبية لهذه الإنجازات: نسبة النمو، مستوى المديونية، الميزان التجاري مع الخارج، وسعر صرف العملة الوطنية. إن هذه المؤشرات لها ميزة وخصوصية كونها تم إعدادها بناء على معطيات إحصائية دقيقة وفي أكثر الأحيان بالاعتماد على معلومات محاسبية.
النمو الاقتصادي انطلاق من الناتج المحلي (PIB)
في البداية أعلن تحفظي على مصداقية وأهمية بل وعلى نزاهة مؤشر الناتج المحلي الخام الذي يخفي عن قصد أو دون قصد حقائقنا والذي أصبح ممرا إلزاميا لكل تحليل لنمو أي اقتصاد.
إن الناتج الداخلي الخام – فضلا عن عيوبه ونواقصه – ليس – من وجهة نظري المتواضعة – القياس الأمثل لتشخيص حقيقي لاقتصاديات بلداننا النامية لأنه يحدد مستوى تتطور غنى أو فقر المواطنين الذين جعل دخلهم في سلة واحدة مع المقيمين الأجانب.
كما أنه يشمل الأرباح القابلة للتحويل للشركات الأجنبية والمتعددة الجنسيات بينما يتجاهل دخل المواطنين المقيمين في الخارج. ولقد قدمت نسخة من هذه التحفظات إلى صندوق النقد الدولي وإلى البنك الدولي اللذين يستخدمان هذا المؤشر بشكل تلقائي معرضين عن مؤشر الناتج الوطني الخام (الناتج الوطني الخام) PNB.
وعلى كل حال هذا المؤشر هو المعتمد فلنعمل انطلاقا منه على حد المثل: "الاكتفاء بالموجود أولى من طلب المفقود"!
الناتج الداخلي 2009-2014
لقد كان هذا الناتج سالبا سنة 2009 لأول مرة في تاريخ البلاد بسبب الآثار السلبية للانقلاب العسكري لكن نسبة نمو الناتج الداخلي الخام ارتفعت ابتداء من عام 2012 بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأولية: الحديد، الذهب، النحاس.. فأصبح 5.8% عام 2012 ثم 6.4% عام 2013 وتراجع إلى حوالي 5.8% عام 2014.
إن زيادة مداخيل المؤسسات العاملة في مجال المعادن هذه أصبح لها تأثير "اتسونامي" مالي أغرق صناديق المؤسسات العاملة في مجال التعدين من ثم خزانة الدولة والتي استحوذت على كل تلك المصادر المالية مما تسبب في أضرار جسيمة للاقتصاد الوطني وسنعالج مستقبلا الجواب كيف ولماذا؟
إن التسيير العقلاني لتلك الموارد كان من المفروض أن يملي على السلطات العمومية استخدام جزء من تلك الموارد الاستثنائية لتسديد قسم من المديونية الخارجية مسبقا، والقسم الآخر كان من المفروض الاحتفاظ به كاحتياط أو رصيد احتياطي لشركة اسنيم (SNIM) لمواجهة احتمالات الركود الاقتصادي وتقلبات السوق وهو شيء كان متوقعا ومعروفا في القطاع المعدني.
لانتكلم في الأجيال القادمة.
إن الخطأ الاستراتيجي الفادح والمميت لموريتانيا في "عهد عزيز" كما تلقبونه وكما سنثبته عن قريب هو كونه تجاهل القواعد الأساسية للتسيير العقلاني والحذر الذي تتتبعه الحكومات المسؤولة وتوصي به أبجديات النزاهة المالية.
نعود مرة أخرى إلى الناتج الداخلي الخام
إن السلطات تشير إلى هذا المؤشر بكثرة لتثبت به أن النمو الاقتصادي بخير وأن هذا دليل نجاح في حصيلة الاقتصاد الموريتاني خلال السنوات العشر الأخيرة وأنا أقبل بهذا دون تحفظ أو اعتراض بالمطلق بالنسبة للنصف الأول من تلك العشرية.
وبما أن الميزانية لها كفتان فلنجعلها في الكفة الإيجابية.
المؤسف أنه واعتمادا على نسبة النمو فإن موريتانيا ليست في مقدمة الدول الأفريقية بل هي في المؤخرة ووراء بعض الدول المجاورة التي لم تمنحها الطبيعة بالخيرات الوفيرة؛ إنها في الرتبة 24 بينما السنيغال في الرتبة 4 ومالي في الرتبة 10!
الناتج الداخلي الخام 2015-2016: انقلاب الوضعية
إن انحسار الأرباح بشكل فجائي وعميق والذي تجلى في هبوط حاد في أسعار المواد الأولية (الحديد، النحاس، الذهب...) أثر بشكل سريع وواضح وتسبب في أزمة ركود اقتصادي وأزمة سيولة نقدية لم يسبق لها مثيل وتعثر المؤسسات بل إفلاسها أحيانا وهبطت نسبة النمو إلى 1.4% عام 2015 ثم 2% عام 2016 لكنها لم تصل أبدا إلى المستوى الذي كانت عليه في السابق.
ومهما يكن فإن اقتصاد بلدنا مازال ضعيفا وهشا لأنه يعتمد على تقلبات سوق المواد الأولية وعلى البورصات العالمية وعلى الأمطار وهي عوامل عديدة ليست لنا أي قدرة على التحكم فيها.
ومادامت التغييرات الهيكلية اللازمة لم توضع (مثل التصنيع الناجح، وبروز ونمو اقتصاد معرفي، تنمية الزراعة مما يضمن الاكتفاء الغذائي،،، مثلا)، فإن اقتصادنا سيظل عرضة للتأثر بالمتغيرات الخارجية وعاجزا أمام دورات الجفاف المتكررة.
إن الموارد ناتجة عن بيع المواد الأولية وهي تمثل 30% من موارد خزينة الدولة و50% من الصادرات.
ثانيا: الاستثمارات العمومية خلال العشرية، نقطة بارزة وإيجابية من الناحية الكمية
قبل الطفرة المعدنية كان الاستثمار العمومي في حدود 30 مليار في العام، لكنه تضاعف خمس مرات ما بين 2009-2014 وفي عام 2015 بلغ الاستثمار العمومي 163 مليار تم تمويل ثلثه من ميزانية الدولة وترسخت هذه الوضعية سنة 2016 حيث مولت الدولة نصف الاستثمارات العمومية (والتي بلغت الرقم القياسي 261 مليار أوقية) من مواردها الذاتية.
وفي نصف هذه العشرية موضوع هذه الحصيلة مثل الاستثمار العمومي 40% من ميزانية الدولة و25% من مجموع الاستثمارات في البلد والمساهمات المقدمة من طرف الدولة للقطاع العام كانت كذلك كبيرة حيث قفزت من 5 مليارات عام 2005 إلى 70 مليار عام 2013.
إذن يمكن القول إن الدولة "أنفقت الكثير"
وعليه فإن الاستثمار العمومي، الذي ازداد منذ 2009، لايمكنه إلا أن يدرج إلى جانب الناتج الداخلي الخام ليكون نقطة قوة إيجابية في الميزانية من الناحية الكمية لصالح الحكومات في "عهد عزيز".
من المعروف أن الاستثمار يساهم في النمو وله أثر إيجابي في المدى القريب على النشاط والتوظيف. نظريا فهو يعتمد على تقييم صحيح، وكان من الممكن أن يكون أداة فعالة للتنمية على المدى الطويل لو تم تسييره بفعالية أكثر ليكون مصدر تقدم وازدهار للبلد.
نعم لاتنمية بدون استثمار والسلطات العمومية خاصة في البلدان المتقدمة قد تستخدمه كأداة لتنظيم الاقتصاد الكلي رغم صعوبة الاستفادة منه بسبب آجال تنفيذه وتحول المتغيرات الظرفية في الدورات المتلاحقة، لكنه كذلك قد يكون عامل تأزيم كما هو الحال مع الأسف في الحالة الراهنة.
إن المحللين الذين درسوا الموضوع قبلنا متفقون على العبارة الدبلوماسية التالية والغالية على المؤسسات المالية الدولية: "لقد تم استثمار الكثير لكن كان من الممكن أن يكون الاستثمار أفضل". بمعنى آخر وبوضوح شديد وكما سنبينه في الخاتمة، لقد استثمرنا بشكل سيئ.
تشوهات وعيوب الاستثمارات في "العهد العزيزي"
1 – خلال هذه الفترة التي لقبتموها "بعهد عزيز" لم يكن الميزان التجاري الموريتاني متوازنا فضلا أن يكون فائضا وعليه يمكن أن نقول إن العجز التجاري عجز هيكلي رغم وجود مداخيل من العملة الصعبة ناتجة من تصدير الخامات المعدنية لكن الواردات المرتبطة بهذه الاستثمارات ساهمت بشكل كبير في العجز في ميزان المدفوعات.
2 - لوحظ فرق بين الأولويات الاستراتيجية للتنمية المحلية رسميا والأولويات التي تتم تمويلها بالفعل، لانفعل ما نقول ولكننا بالمقابل نفعل ما لم نقل. هل هذا شعر! لا، ربما هذه المرة نعم!
3 – لم تركز الاستمارات في العشرية الأخيرة إلا على الميادين التالية: البنى التحتية – الطاقة – النقل.
إن مشاريع الاستصلاح الترابي قد بلغت 50% في بعض الأحيان(2010-2016) من مصاريف الاستثمار بينما تم إهمال كل ما له علاقة بالمصادر البشرية، الثقافة، العدالة، التعليم (2.7%) الشؤون الاجتماعية، الشغل، الشباب، الرياضة، جميعا لم تحظ إلا بنسبة 9% وأحيانا نزلت إلى نسبة 3% بل أقل من ذلك.
عدم المبالاة؟ عدم الشعور بالمسؤولية؟ محاولة إبادة جماعية للناس عن طريق الاقتصاد؟ لن أجيب عن هذه التساؤلات وأترك لكم حرية استخلاص النتائج.
4 – إن المعونات المقدمة للقطاع العام والتي وصلت إلى نسبة 1400% ما بين 2005 و2013 كانت لها فعالية متوسطة ولم تحظ بالرقابة والتفتيش إلا قليلا أي أن الحكامة الرديئة والتسيير السيئ للاستثمارات العمومية قد تجلت حسب مقرر البنك الدولي بأمور غير طبيعية عديدة لوحظت وتم التأكد منها. وهذه العيوب هي:
عدم جدوائية الاستثمارات العمومية
مردودية منخفضة للاستثمارات العمومية
تأثير غير كاف للموارد المخصصة للاستثمارات العمومية
عدم خبرة المصادر البشرية المكلفة بتنفيذ المشاريع وعجزها عن التسيير الأمثل لهذه المشاريع.
إن تقارير البنك الدولي تعطي صورة عن الوضع وتعطي الخلاصة "إن التقييم يثبت أن موريتانيا تحت المتوسط المطلوب لنظام تسيير فعال للاستثمار العمومي". الخلاصة أن حكامة الاستثمارات أصبحت الرهان الأمامي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية. وهي عبارة أدبية يراد بها أنه من الضروري العمل على محاربة الفساد والمطالبة بالشفافية في مجال إعطاء الصفقات العمومية.
وهكذا نكتشف أن الاستثمار العمومي الذي كان يعتقد أنه هو الحل للتنمية أصبح هو المشكلة الحقيقية في عهد عزيز كما أصبح مصدر إزعاج بسبب سوء التسيير من بين أمور أخرى.
يضاف إلى سوء التسيير هذا الوجه الآخر من العملة أن تنفيذ الاستثمارات التي لم تسير بالشكل اللازم قد أدت إلى إفراط في المديونية التي كانت أساسا بالعملة الصعبة وتفاقم العجز في ميزان المدفوعات وتدهور قيمة العملة الوطنية.
وانطلاقا مما سبق ولأننا غير ملزمين بالتحفظ، فلاشيء يحرجنا نفي او عند كشف الحقائق، فإننا لا نستحي من الابتعاد عن عبارة الاستثمارات العمومية عند الحديث عن إنجازات حقبة عزيز الاستثمارات تقتل أو تخنق الفاعلين الاقتصاديين والمؤسسات خلال هذه العشرية قامت الدولة بتكليف مؤسسات عمومية بتنفيذ هذه المشاريع، وذلك بغية إضعاف القطاع الخاص غير المصنف، فتم تكليف SNDE – ISKAN – ENER – ATTM وقد بلغت هذه السياسة المدمرة للاقتصاد ذروتها عام 2015 حين بلغت نسبة 35% من مجموع الاستثمارات العمومية. إن المحاباة والمحسوبية التي اتسمت بها هذه المؤسسات عند تنفيذ المشاريع واللجوء إلى عقود من الباطن مع مؤسسات مشبوهة بشكل مفرط ويملكها أشخاص غير مصنفين قد كانت رصاصة الرحمة التي أطلقت فيما بعد على بعض هذه المؤسسات مؤذنة بموت محقق كما حدث لسونمكس.
هل مازالت ATTM موجودة؟ لقد اطلعت مرة على الميزانيات المالية لها تم إعدادها من قبل خبراء من SNIM والتي تظهر أنها على سرير الانعاش بل الموت لأن خسارتها كبيرة جدا بالقياس إلى قيمة أعمالها بل إن الخسارة تساوي قيمة الأعمال! شيء لم أسمع به قط.
ثالثا: العلاقات المالية مع الخارج من خلال الميزان التجاري
إن العجز الهيكلي للميزان التجاري رغم ارتفاع أسعار المواد المعدنية أدى إلى تدهور قيمة العملة الوطنية وبالقياس إلى الناتج الداخلي الخام فإن الفارق بين الصادرات والواردات (وهو ما يسمى برصيد الميزان التجاري) قد مثل -28.3% عام 2014. أما عام 2013 فقد كان -22.2% من الناتج الداخلي الخام.
إن هذا الاختلال - الذي يصعب فهمه لأول وهلة – بسبب رواج المواد المعدنية وارتفاع أسعارها في بلد يصدر كميات كبيرة جدا من الحديد والذهب والنحاس يعود في الحقيقة إلى كثرة المشتريات من التجهيزات الضرورية لشركات المعادن والواردات المرتبطة بتنفيذ الاستثمارات العمومية ويضاف إلى هذا إخراج أرباح الشركات الأجنبية.
في تقريره لشهر فبراير 2018، أظهر البنك الدولي حقائق لاتصدق: "مثلا في الفترة ما بين 2007 - 2019 كانت الواردات من البضائع والخدمات المخصصة للشركات المعدنية تمثل 90% من صادرات المعادن. ومن حيث حركة النقد، فإن هذه الواردات تمتص العملات الصعبة الناتجة عن بيع الصادرات من المعادن. كما أن تحويل أرباح الشركات الأجنبية والشركات النفطية خارج البلاد يفاقم من الوضع السيئ أصلا".
وهذا يؤدي كذلك إلى ضغط شديد على احتياط البنك المركزي الموريتاني من العملة الصعبة. وهكذا وكما ترون لم تستفد موريتانيا من الناحية المالية من الزيادة الاستثنائية في اسعار المعادن.
بالعكس من ذلك، زاد العجز وأصبحت القطاعات الاقتصادية الوطنية الأخرى تساهم في تمويل الشركات الأجنبية وهو شيء غريب.
وبوصفي خبيرا أو مدققا ماليا لا أستطيع إنكار شكي في كونه قد تمت زيادة في أسعار البضائع المستوردة بهدف التغطية على تحويلات النقد الأجنبي بشكل غير شرعي وغير قانوني.
وهكذا نفهم بالمناسبة لماذا صرح صندوق النقد الدولي في آخر تقاريره أن موريتانيا هي البلد الأقل استفادة - في هذه الفترة - من مواردها الطبيعية.
وهذا – حسب اعتقادي – النقطة الأكثر "حمرة" وأكثر إيلاما في هذا الجدول المأساوي (أشير هنا إلى أني اخترت عن قصد اللون الأحمر بدل اللون الأسود لما لهذه الكلمة من بعد عنصري وأرجو أن تحظى هذه الاستعارة بالقبول في عالم اللغة كما حظيت عبارتنا السابقة "الاحتوائية" (inclusivité) والتي اخترعناها وأدخلناها في القاموس السياسي مع إعطائها معنى غير الذي كانت تعنيه لغويا.. وعلى كل حال ذلك موضوع آخر).
النتائج على سعر الأوقية
إن تغير الوضعية قد فاقم من الحالة وكأنها القشة التي قصمت ظهر البعير. إن الصدمة السالبة للتبادل التجاري عامي 2014 و2015 الناتجة عن انخفاض أسعار المواد الأولية المصدرة بشكل مفاجئ كمل كان ارتفاعها مفاجئا كذلك في السنوات السابقة قد صعبت من إمكانيات التمويل مما دفع البنك المركزي الموريتاني إلى الاقتراض من المملكة العربية السعودية مبلغ 300 مليون دولار غير قابلة للتداول من أجل دعم ميزان المدفوعات واستقرار سعر العملة.
ورغم ذلك وبسب ضخامة العجز التجاري للبلاد تم تخفيض قيمة العملة 7.4% عام 2015 ومع ذلك ظل صندوق النقد الدولي يقول إن سعرها مازال فوق المستوى الحقيقي لها بنسبة 14% حتى 21%.
بالقياس إلى الدولار ظلت الأوقية في هبوط مستمر بواقع 9% كل سنة. وهذا الانخفاض استمر حيث تم تخفيض قيمة العملة 4.5% مرة أخرى عامي 2015 و2017.
المديونية العامة الموريتانية: مخزون ضخم وعبء ثقيل على كاهل الدولة
إن المديونية التي صاحبت تمويل الاستثمارات العمومية قد ارتفعت بشكل مفرط حتى أصبحت موريتانيا – وهذا شيء غريب جدا – تشبه من هذه الناحية الدول الأكثر تطورا عبر العالم.
الخصائص الأساسية لهذه المديونية وتطورها
إن الاستثمارات التي أنجزت خلال السنوات الأخيرة كانت كبيرة وأدت إلى عجز كبير وخطير بالنسبة للتوازنات الاقتصادية داخليا وخارجيا رغم المداخيل الضخمة الناتجة عن الطفرة في أسعار المعادن والمديونية المفرطة التي بلغت نسبة 99% من الناتج الداخلي الخام ونسبة 96% من هذه الديون خارجية وبالعملة الصعبة.
ومن الغريب (يبدو أن هذه العشرية مليئة بالغرائب والعجائب) أنه خلال سنوات الرخاء (زمن البقرات السمان) 2010-2014، زادت مديونية البلد بنسبة 153% فأصبحت بذلك من حيث مستوى الدين الخارجي تحتل الرتبة 32 من بين الدول الأكبر مديونية في العالم ومن بين هذه الدول 32 أكثر من النصف هي دول متقدمة جدا. بل وأسوأ من ذلك أصبحت الدولة الثالثة أفريقيا من حيث حجم المديونية متجاوزة بذلك الزمبابوي الذي يحتل المرتبة الرابعة.
ومصاريف تسديد الديون زادت بنسبة 10% سنويا.
وخدمة الدين السنوية (6% من الناتج الداخلي الخام) شكلت البند الأبرز في جدول المصاريف – إن خدمة الدين مكونة من القسط الأساسي المستحق سنويا زائد الفوائد المستحقة.
ولإعطائكم فكرة عن المبلغ المسدد كل عام والذي يخصم من احتياطنا من العملة الصعبة والذي يتحمله دافعي الضرائب عن خدمة الدين، هذا المبلغ يساوي بالضبط مجموع الرواتب لوكلاء وموظفي الدولة.
أما عن طبيعة هذه المديونية فتجدر الإشارة إلى أن نسبة 63% من المبالغ المستحقة طبقا للاتفاقيات السارية لتاريخ 31/12/2016 ناتجة عن ديون بفوائد ورسوم و37% الباقية هي عبارة عن هبات أو شبه هبات والأدهى والأمر أن بعض المصادر المطلعة جدا تعتبر "أن الحكومة لها رغبة جامحة في الاقتراض بفوائد وتتجه نحو الاستدانة بالعملة الصعبة بمبالغ تفوق الحاجيات الحقيقية وقدرة الاقتصاد على استخدامها"؟!
رابعا: اسنيم ضحية ازدهارها المالي (تخمة المال) وهي قاتلة
اسنيم هي أكبر رب عمل (6000 عامل) بعد الدولة والتي تساهم بنسبة 30% في ميزانية الدولة وتمثل 50% من الصادرات قد استفادت من طفرة معدنية لم يشهد التاريخ مثيلا لها منذ تأميمها بل قبل ذلك.
لقد ازداد سعر الطن من خام الحديد ثلاث مرات وتضاعف حجم أعمالها بالقياس إلى ثبات كل المعطيات الأخرى ثلاث مرات كذلك.
إن زيادة الأرباح هذه ثلاث مرات لم تصاحبها أي زيادة في النفقات؛ فالإنتاج ظل ثابتا وتكاليف استخراج الخام لم ترتفع وعليه فقد حصل طوفان من الأرباح لم يكن متوقعا بمن الله وكرمه عبر زيادة الأسعار في السوق العالمية للمعادن.
ولم تحظ أية مؤسسة أخرى مهما كان نشاطها في يوم من الأيام بهذا الانطلاق الصاروخي للمداخيل. ورغم هذا المحيط من النقود زادت مديونية شركة اسنيم من 5% إلى 11.5% من الناتج المحلي الخام. فيبدو أن اسنيم سارت على خطى الدولة؛ فكيف نفسر هذا اللغز (وهو من أصعب الألغاز على الإطلاق)؟ أم كيف نبرره؟
في البداية لايمكن تفسير هذا بالرجوع إلى أبسط مبادئ التسيير الاقتصادي أو المالي العقلاني المتعارف عليه في المؤسسات.
إن أي مؤسسة ولو كانت عمومية أو تملك الدولة جل رأسمالها ليست هي الدولة، وبالتالي عليها الالتزام بالبحث عن الأرباح واحترام نظامها الأساسي. وبخلاف الدولة لاتستطيع شركة ما تحصيل مثلا لتغطية العجز في الموازنة أو المحافظة على نفسها وعمالها؛ والمؤسسة قد تنهار بالإفلاس ونرجو من الله السلامة لشركة اسنيم. وهذا يبدو وبوضوح أن القواد في عهد عزيز يجهلونه أو يتجاهلونه وأول هؤلاء القادة، الذي يقودهم أي الرئيس.
باقتصار، لابد من العودة إلى حسابات هذه المؤسسة للحصول على تفسير للمعضلة الغامضة التي ذكرناها سابقا حول وضعية الشركة.
على كل حال نحن نعرف أن اسنيم دخلت (أو أقحمت) في مشاريع ليست في صلب عملها واختصاصها العادي والمعروف. وأنا لا أملك تفاصيل هذه الجولات في الميادين الأخرى إن لم أقل المغامرات تلك، من جهة أخرى ومنذ 2009 بدأت مشروعا استثماريا بقيمة 350 مليار أوقية (وهذا المبلغ يساوي ميزانية الدولة التي هذي الضامن الحقيقي لها).
انظر أيضا: العلاقات المالية مع الخارج من خلال الميزان التجاري ثم تقرر البدء في استثمار ثان إضافي بملغ 5 مليار دولار أي 5 أضعاف الاستثمار الأول، وكان الهدف المعلن هو التمكن من إنتاج 40 مليون طن من خام الحديد لتدخل موريتانيا نادي الدول الخمس الأولى في العالم في إنتاج الحديد. لكن المفارقة الأليمة أن أعلى مستوى للإنتاج لمن يتجاوز 13.5 مليون طن (تقرير 2014).
إن أبسط قدر من الحكمة وبالرجوع إلى تجارب المؤسسات المشابهة والنظر في تدرج تطورها يقودنا إلى عدم التصديق بإمكانية مضاعفة الإنتاج إلى تلك المقادير الخيالية بالنسبة لمؤسسة تعمل في قطاع تتحكم فيه تقلبات الأسواق العالمية التي لايمكن التنبؤ بأحوالها وفي محيط مليء بالعقبات والإكراهات والمنافسة الشديدة.
ورغم كوني لست متخصصا في المناجم وأرجو أن أكون مخطئا فأنا أعتقد أن الهدف من ذلك المشروع هو الإعلام والدعاية وحاجة إلى التبرير وليس العمل في مجال يمكن تحقيقه بموضوعية.
فأنا لا أستطيع التصديق بإمكانية مضاعفة الإنتاج أربع مرات في شركة عمرها نصف قرن ولم يزد إنتاجها بشكل كبير خلال العقود الأخيرة. وبالمقابل إذا كانت المداخيل المتوقعة من بيع هذا الإنتاج الضخم غير مضمونة وعشوائية فإن المصاريف عادة معروفة ومؤكدة والموردون لايرفضون ابدا الطلبيات.
إذن اسنيم دفعتها الحكومة أو رئيسها أو أجبرتها على القيام بخطوة محفوفة بالمخاطر. خطوة غير محسوبة العواقب ولم تلتزم الحذر.. هذا أقل ما يمكن أن يقال. ماذا عن مستقبلها؟ الله أعلم!
اسنيم ضحية تغير مفاجئ للظرفية الاقتصادية
إن تغير اتجاه الظرفية في الأسواق العالمية للمواد الأولية بما في ذلك الحديد طبعا جعلت الأسعار تنخفض ابتداء من 2015 مما جعل المؤسسة تعاني من أزمة سيولة حادة أو حتى أزمة العجز عن السداد (إفلاس) لم تمر بها ابدا والتي تهدد الهيكل المالي للشركة بشكل دائم. ويبدو أنها ولأول مرة وخلال هذه السنة المالية لن يكون بمقدورها أن تدفع للحكومة مساهمتها في ميزانية الدولة.
إن نتائج الاستثمارات/المشاريع والتي بلغت تكلفتها الرسمية 2000 مليار من الأوقية القديمة هي التي ستحدد استمرارية الشركة ومستقبلها. كيف يكون أو لايكون.
هناك درسان يجب استخلاصهما من هذه التجربة المريرة التي حدثت في عهد عزيز:
الدرس الأول: إن اسنيم ليست الدولة ولا يجوز أن تحل محلها؛
الدرس الثاني: إن فصل الدولة عن المؤسسات سواء كانت عمومية أو خصوصية أمر ضروري وحيوي لبلادنا. ففي سنة 2009، عندما كثر الحديث عن الحكم الرشيد والحكم الفاسد دون أن تستوعب في الحقيقة معنى هذه العبارات، قمت بنشر دراسة على شكل رسالة مفتوحة إلى رئيس الدولة في تلك الحقبة وكان موضوع الرسالة هو الحكامة الرشيدة للمؤسسات العمومية وقد اقترحت متابعة للمشاريع والمؤسسات العمومية وبعد بعض الوقت ظهر شيء ما مكلف بمتابعة المشاريع لكنه لم يتم – حسب علمي - إنشاء أي جهة تكون مسؤولة عن مراقبة الشركات والمؤسسات العمومية.
وبالملخص المفيد – إن شاء الله – لم يكن النمو الاقتصادي خلال النصف الأول من العشرية – والتي هي موضوع دراستنا وتحليلها نتيجة سياسة اقتصادية مقصودة بل كان نموا "ساقطا من سماء" المواد المعدنية وسقط على رؤوس المسيرين الذين اختاروا تنفيذ استثمارات زائدة عن الحدود، مكلفة للغاية وآثارها مدمرة على الاقتصاد مثل اتسونامي؛ وبدل أن تكون تلك الاستثمارات محركا للنمو، أصبحت عامل أزمة وعامل عدم استقرار لأنها من نوع خاص وتكلف واردات تسدد بالعملة الصعبة. ثم جاءت الديون المفرطة التي أدت سيلا من التعثر والعجز والإفلاس، وهذا بدوره تسبب في عدم توازن هيكلي متواصل.
وبما أن مصائب قوم لقوم فوائد، فقد كانت هذه الكارثة هنا لها فوائد جمة لاقتصاديات بعض الدول الأجنبية التي تصدر الآلات الثقيلة ولمن يمثلونهم هنا أو الذين يحصلون منهم على عمولات في الغرف المظلمة رغم كونها في فنادق 7 نجوم!
إن انعكاس الوضعية بشكل عنيف ومفاجئ والذي حدث سنة 2015 قد كبح نسبة النمو وانخفض معدل الاستثمارات التي لم تجلب دخلا إضافيا يغني الدولة عن أخذ ما في جيوب المواطنين ذوي الدخل المحدود أصلا والتي تراجعت قدراتهم الشرائية مما جعل - شيئا فشيئا - وقع الضرائب لايطاق من أجل تغطية النقص في الواردات المالية.
خامسا: أصبحنا في المأزق ونولي الظهر للحائط
إن الرئيس الجديد الذي سيتم انتخابه في موريتانيا معني بالحصيلة الاقتصادية لسنوات عزيز. فهو سيكون الوريث المباشر والشرعي لها.
إن الحديث السابق كان عن الحصيلة الختامية وخلاصة لنتائج تسيير الرئيس المنتهية ولايته. وستكون هذه الميزانية بالنسبة للرئيس برنامج افتتاح ونقطة انطلاقة دون أوقية واحدة زيادة أو أي أوقية بالناقص سواء كان ذلك في الأصول أو في الخصوم.
ويبدو أن رئيس هذه العشرية وحزبه الحاكم يلحان على مرشحهما للخلافة أن يتابع الطريق الذي رسماه والنهج الذي سلكاه. والحقيقة «أن متابعة نهج الرئيس عزيز الاقتصادي وحكومته (بل وحكوماته) لايمكن أن يؤدي إلا إلى التهلكة وتدهور حقيقي للاقتصاد الموريتاني».
سأبعد قدر المستطاع عن كل ما يمت بصلة إلى أية أيديولوجية حزب أو خصوصية الأفراد أو الجماعات والعلاقات الشخصية التي تربط بعضهم ببعض. كما أني لن أخوض في خصوصية هؤلاء أو أولئك حيث ان كل شخص حر في اختياره الايديولوجي أو الانتخابي أو مواقفه السياسية بملء إرادته.
لأن خطابنا هنا خطاب اقتصادي بحت وقد يتطرق إلى السياسة الاقتصادية عكس "السياسة" التي قد تتكون من كلمات وخطابات لاتنتهي وقد لاتكون لها تكلفة، خطابات تتشكل وتتكيف؛ أما علم الاقتصاد والسياسة الاقتصادية لهما قوانينهما وقواعدهما والموضوعية الثابتة والقاهرة.
فالندرة التي تميز الاقتصاد وضرورة الوصول إلى التوازن وصعوبة ذلك ما لم يتم اتباع القواعد وإتقان التقنيات وعلومها، كلها أمور تميز الاقتصاد عن شقيقته السياسة.
مرة أخرى نقول إنه على ضوء الحصيلة التي قمنا بتحليلها آنفا يكون اتباع النهج الاقتصادي للرئيس عزيز وحكومته لايمكن أن يؤدي إلا إلى موت محقق للاقتصاد الموريتاني.
نحن الآن في المأزق والظهر للحائط.. إذن متابعة "النهج العزيزي" أو اتباع خطواته ولو من قبل الذين يعرفونها ويحبونها هو المضي إلى الهاوية بخطى حثيثة والسقوط في كارثة اقتصادية ومالية وبالتالي سياسية ووجودية بلا مبالغة وحتى يتم فهم الوضع الاقتصادي الحالي نقول إن تسيير الاقتصاد خلال السنوات الأخيرة قد وضع الاقتصاد اليوم في الهاوية، والقيام بالخطوة المميتة والسقوط في الهاوية أو - في أحسن الأحوال – القفز إلى المجهول!
لقد وضعنا الأصبع على الإشارات (والتي أصبحت جميعها حمراء) كما أثبتنا بما لايدع مجالا للشك أن الخطوط الحمراء قد تم تجاوزها. إذن لايمكن أبدا – أعيد وأكرر – أن نتابع في نفس الطريق!
خلال المأمورية الأخيرة قام الرئيس الحالي بمساعدة حماسية من وزير المالية والاقتصاد ... أعيد وزيره للاقتصاد والمالية بجمع وتجميع جميع ينابيع وجداول المالي والنقود في الداخل والخارج ومن جميع المصادر الممكنة والتي يمكن تصورها.. كل ذلك بشكل مكثف وبسرعة جنونية عن طريق المديونية المفرطة التي خنقت البلاد والعباد ليتمكن من شراء معدات ثقيلة وباهظة الثمن من أجل تحقيق – ولأول مرة مشاريع عملاقة لم يفكر أحد قبله ولا بعده فيها منذ استقلال البلاد وهذا هو بيت القصيد في السياسة الاقتصادية وهذا هو الدافع وهذا هو النهج.
لن يقبل أي ممول أن يقرض رؤوس أموال لهذا البلد الفقير والنامي الذي سلب أسباب الغنى والذي تسود فيه حكامة اقتصادية غير مريحة ومديونية تساوي 100% من ناتجه المحلي الخام.
إن نوايا ومشاريع الاستثمار التي قد يفكر فيها الرئيس المنتخب - إذا أصر على اتباع نفس "النهج" - فإن تلك الطموحات ستتحطم على صخرة الديون الخارجية دون أن يستطيع اللجوء إلى الضرائب، التي بلغت الحدود القصوى الممكنة، ولا يستطيع تمويل أي مشروع في الوقت الذي انخفضت فيه الاحتياطات إلى أدنى حد ممكن.
كما أن المديونية المسجلة لدى البنك المركزي والتي ظهرت مؤخرا لن تساعد الرئيس الجديد والخيارات محدودة جدا أمامه حتى لو أراد سحب كميات ورقية كبيرة من العملة... لن يفيده ذلك أبدا.
لقد هدم الآبار من قبل من سبقوه ونضبت وعملوا على سد كل السبل أمام من يخلفهم: إمكانية الاستدانة من الخارج معدومة والقدرة على تسديد الدين السابق معدومة! فأين المفر؟
وللمقارنة من المعلوم أن نسبة المديونية في القارة الأفريقية هي علية جدا حسب المنظمات الدولية لاتمثل إلا نسبة 60 من ناتجها المحلي الخام. ماذا سيحدث لو أن ممولا – لأسباب عير معقولة أو غير معلن عنها – قام بتقديم قروض جديدة لنا رغم مستوى ديننا المفرط لتمويل مشاريع جديدة أو إكمال مشاريع لم تنجز في إطار متابعة السياسة الاقتصادية المتبعة حتى الآن. بمعنى آخر متابعة النهج المدمر الذي تم وصفه سابقا؟
لايحتاج المرء أن يكون نبيا لمعرفة ماذا سيحدث!
إليكم الجواب على هذا السؤال: ما سيحدث إذا حصلنا على تمويلات إضافية:
1 – نسبة المديونية ستتجاوز حاجز 100% من الناتج المحلي الخام ونصبح بذلك البلد الأفريقي الأكثر مديونية ونكون ضمن العشر أو الخمس دول الأكبر مديونية في العالم قاطبة.
2 – وينتج عن ذلك خدمة دين سنوية تمتص نسبة لايمكن تحملها من ميزانية الدولة.
3 – وهذا سيزيد من العجز الحاصل في الموازنة.
4 – أو سنجبر على وقف بعض مصاريف التسيير أو الاستثمار الضرورية.
5 – ستدفع الدولة سنويا للدائنين في الخارج أمثر مما تدفع لعمالها.
6 – شراء المعدات والتجهيزات الثقيلة الضرورية لتنفيذ المشاريع ستزيد من العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات والتي تشهد حاليا اضطرابا هيكليا غير مسبوق؛ وهناك مبالغ مفقودة (ثغرات) خارج حدود القياس.
7 – وهذا رغم أثره السلبي على النمو الاقتصادي.
8 – فإنه كذلك يؤثر سلبا على سعر صرف العملة في الخارج خاصة في بلد يستورد كل حاجياته ولا يغطي إلا نسبة ضئيلة من حاجياته الغذائية.
9 – انخفاض قيمة العملة سيزيد من أسعار المواد المستورة بما في ذلك طبعا المواد الغذائية والمواد الأساسية الأخرى كثيرة الاستهلاك.
10 – مما يخفض أكثر القدر الشرائية ومستوى المعيشة للسكان الذين يعيشون اصلا في الفقر الشديد.
11 – نسبة التضخم في أوضاع كهذه لايمكنها إلا أن ترتفع.
كل هذه العوامل – مع عوامل أخرى تركنا ذكرها خوفا من إثارة ضجركم – ستؤدي بسمعة البلد في المحافل الدولية وتشوه صورته مما يجعل من الصعب حصوله على قروض جديدة لتمويل مشاريع الاستثمار من نوع "تنفيذ النهج" المعروف.
إن أي رئيس جديد سيبحث – شاء أم أبى – عن طريق للخروج من الحلقة المفرغة الموروثة عن سلفه ومن أجل رسم سياسة أخرى ونزع الألغام عن حلق الاقتصاد والمفاوضة على اتفاقيات ثنائية جديدة ومتعددة الأطراف مع الشركاء الاقتصاديين والماليين.
وهكذا ترون أن الوضعية تشبه الحية التي تلدغ ذيلها وأننا سنعود إلى نقطة الانطلاق لأننا ندور في حلقة مفرغة إذا اتبعنا نفس الطريق السابق.
إن متابعة الدوران في هذه الحلقة المفرغة لن يزيد الحال إلا تدهورا والالتزامات إلا تعقيدا.
لابد من الخروج من الدائرة المفرغة بترك "النهج" واختيار طريق آخر معاكس تماما على أمل الدخول في حلقة أخرى تكون هذه المرة حلقة النزاهة والاستقامة. وسيؤكد لكم طلابي أني لم أخترع هذه العبارات حول الدوائر بل إن الدراسات العلمية والعلوم الاقتصادية تتحدث عنها بوضوح.
الرئيس الجديد المنتخب لتحقيق ذلك يحتاج إلى مهلة تربص من لدن شركائه الاجتماعيين وخصومه السياسيين فيستفيد من تلك الفترة لرسم سياسة اقتصادية جديدة في جو هادئ وانطلاقا من الاطلاع الكامل على حقيقة مجريات الأمور.
إن مطالبة رئيس تم انتخابه منذ وقت وجيز بمتابعة طريق مسدود، دون رصيد دون قروض، دون مصداقية، بمعنى آخر غير قادر على دعم مالي من المؤسسات المالية والبنوك يساوي دفعه إلى القفز في الهاوية بعد تسليمه السلطة وهو على حافة الهاوية.
وعلى المرشحين للرئاسة أن يدمجوا في برامجهم الانتخابية التزاما أخلاقيا بالشرف أن يحترموا مهلة التربص هذه والتي تكون من 6 أشهر إلى سنة من أجل مصلحة بلدهم المنهك والضعيف اقتصاديا وماليا. يقال إن السياسة تتبع الاقتصاد وعلى كل حال في الحالة الراهنة فهذا شيء ضروري.
إن فترة الراحة الاقتصادية والهدنة السياسية يجب أن يقترنا معا ليتمكن البلد من تجميع قواه لرفع التحديات المالية على الأقل ثم الحصول بعد ذلك على الحد الدنى من الموارد المالية لتحقيق بعض الشيء من الوعود الانتخابية "السخية" من أجل تنظيم البيت الداخلي الموريتاني. إن السلام والاستقرار بل وإنقاذ حياة البلد في ظل التناوب السلمي على السلطة لن يكون دون دفع هذا الثمن.
فإذا قلنا للمترشح: اجعل من الحصيلة الاقتصادية التي وضحنا نواقصها وآثارها المدمرة الماضية والحاضرة والمستقبلية شعارا بارزا لحملتك الانتخابية فهذا لايخدمه انتخابيا اليوم ولا يخدمه سياسيا غدا!
ألم يقل جلالة الملك الحسن الثاني – رحمه الله – في وصيته لجلالة الملك محمد السادس - حفظه الله – أن يغير السياسة بعده؟
إن المادة الاقتصادية والإمكانيات المالية التي يمكن رصدها في القريب العاجل والسيولة تم رشفها بالكامل مع نهاية "عهد عزيز" وأرصدة جميع الحسابات الكبيرة مدينة. التسيير الماضي ترك ثقوبا غائرة والرئيس القادم – ساعده الله – في حكم البلاد سيكون محاطا بثقوب، بل بحفر عميقة.
سيكون بحاجة ماسة إلى استخدام قدراته في تحديد الجهات ومهارته في اتخاذ الحيطة وكل النور المنبعث من الشفافية. وهنا نلاحظ على سبيل النكتة مع المحافظة على الفوارق أن هناك تشابها وتقاربا بين الرئيس المنتخب والذين انتخبوه وينتظرون منه تنفيذ وعوده الانتخابية والمواطنين الذين ينتظرون من الماكينة المنتجة للديون (لصاحب التيسير) أن يسدد الديون المستحقة لهم عليه: إذن هناك ماكينتان – بقوة متفاوتة طبعا – لكنهما تصنعان نفس المنتج: المديونية المفرطة!
إن مديونة وعجز اسنيم وموريتانيا عموما ثقوب غير مرئية تهدد أكبر شركة وطنية من الناحية الوجودية وتهدد كذلك استقرار وتوازن البلاد كما أنها تسبب الدوار للاقتصاديين والمحللين الماليين الوطنيين والدوليين على حد سواء.
إن الهدف الوحيد لهذه الدراسة التحليلية هو توعية الشعب الموريتاني ونخبه والمترشحين للانتخابات الرئاسية القادمة والحكومة التي ستغادرنا على خطورة الوضع الذي اكتشفته وأنا أحضر لهذه المقابلة وقبيل الحملة الانتخابية وحتما انتقال السلطة إلى جهة أخرى.
إن الشعب وحتى بعض النخب غير المختصين في الاقتصاد أو المالية لايرون إلا الأمور المرئية الواضحة والملموسة لكنهم لايدركون الأمور غير المرئية المخيفة، أي الحسابات الاقتصادية والمالية للأمة.
إن من واجبنا أن نوضح لهم الأمور حسب طاقتنا.
في مجال الاقتصاد والمالية لايجوز التفريق بين المخفي والمرئي. إن عمارة اسنيم ذات الطوابق العديدة وسط مدينة انواكشوط والمطار الدولي القادر على استقبال مليونين من المسافرين وقصر المؤتمرات بالقرب منه كلها مباني جديدة - لاشبيه لها – والشوارع المعبدة والمضاءة ليلا ونهارا كلها أمور واضحة وتثير إعجابا: إنها الإنجازات العظيمة للرئيس عزيز.
لكن الديون والعجز في ميزانية الدولة الموريتانية ثقوب غير مرئية تهدد أكبر شركة وطنية في وجودها، وهذا يجهله الشعب والسادة الكبار الذين شيدوا تلك المشاريع ويبدو كذلك أنهم يجهلون عمق تلك الثقوب المالية المخفية خلال قيامهم بتلك المشاريع والتي تهدد بابتلاع كل شيء.
وقد يقول من يحاول الرد علينا إن رائحة الغاز فاحت من المياه الإقليمية الموريتانية السنيغالية وأن ذلك قد يمكن من سد تلك الثغرات وتغطية العجز في الميزانية بل ومساعدة الاقتصاد الموريتاني على الازدهار من جديد.
وعلى هؤلاء لن أرد إلا بالدعاء والأماني: آمين إنشاء الله - وانتظروا 2022!
أما عن المحاسبة والاقتصاد ومن باب الحيطة والحذر مقتديا في ذلك بقصة الدب في الأسطورة المشهورة حيث يقول إنه لا يتأكد إلا من شيء دخل في جوفه فعلا، وعليه لا يسجل في الحساب إلا الدخل الحقيقي بعد تحصيله الفعلي.
وفي انتظار الفرج علينا أن نشد الحزام فالوضع الاقتصادي والمالي في المستقبل سيكون أسوأ من الوضع الحالي وأصعب بسبب تبعات وآثار "النهج" التي لا تنتهي، ذلك النهج المتبع خلال العشرية الأخيرة. فلنرحم ونتفهم الرئيس القادم ونعمل على مواساته والذي عليه أن يرد لنا ذلك فنحن كذلك بحاجة إلى الحنان والمواساة.
إن المثل السائر عندنا والذي تثبت العلوم المالية صحته يقول: "الفظة ما تنكال مرتين". واضيف هنا من باب التوضيح أن المال إذا لم يكن من مواردنا الخالصة، فهو إذن دين ولا بد من قضائه يوما ما. وهذا يعني نقصا في مواردنا ودخلنا مما يقلل من قدرتنا الشرائية ولنتحلى بالصبر ونثابر ونستفيد من الدروس التي عشناها وعايشناها وعانينا منها.
أخيرا سمحوا لي أن أقول إنني لما قمت بهذا التشخيص المعتمد على الأرقام والمعلومات الواردة في تقارير الممولين الدوليين لم أكن أبدا أبحث عن الخطإ والداء، بل كنت أبحث عن الدواء لمعالجة الداء.
وفي المرة القادمة سأقدم لكم بعض الأفكار والآراء المستوحاة من هذا التشخيص وسأكون إن شاء الله حالة نفسية بناءة ومتفائلة.
إن ما يحدث لنا الآن بفعل الأقدار التي لا نتحكم فيها أصلا ليس ما يميز الغث من السمين، ولا النجاح من الفشل، بل إن الطريقة التي نرى بها ما يحدث والزاوية التي ننظر منها إلى واقعنا وكيف نتفاعل معه هي التي تغير كل شيء.